الإدمان على الأجهزة الإلكترونية

بقلم د. دجانة بارودي
في حالة من حالات العجز عن السيطرة على الذات وإدارتها خضت تجربة شخصية للتعامل مع إدمان التواصل ومضيعة الوقت بالأجهزة الإلكترونية. فبعد محاولات سابقة فاشلة تنوعت بين العلاج الروحي واستخدام استراتيجيات العلاج المعرفي والسلوكي، كان لا بد من الكي كتلك الصدمات الكهربائية التي يستفاد منها بعلاج بعض حالات الاضطراب النفسي المرضي. ولهذا قمت بتجربة عبارة عن اعتكاف يبعدني قسريا عن جهازي لأسبوعين، ولعلمي بضعف نفس حاولت مسبقا التقنين. قررت ترك الجهاز في بلد غير الذي سأقيم فيه.
وقد نالت هذه التجربة استياء البعض ممن حولي لكونها طلب انعزال يدل عن ضعف بالإرادة، في مقابل تشجيع آخرين حاولوا بائسين التخلص من مثل هذه الحالة، وتضايق غيرهم لتوقف بعض أعمال كان لا بد من أن تنجز لم أتابعها نتيجة عدم التواصل. ولإنجاح التجربة كنت أكتب يوميا ملاحظات أشخص بها حالتي حيث مررت تلقائيا ودون قصد مني على الإحدى عشرة وسيلة للدفاع النفسي المذكورة في مدرسة التحليل النفسي للتخفيف من حالة ألم الفقدان والشعور بالذنب.
ففي أول يومين بدأ (الكبت) نتيجة شوق لعادة تلازمني، فكان الضيق وإحساس حرمان، وحديث نفس عن سبب مثل هذا القرار وعن سوءه وأضراره العملية، وأفكار تراودني لطلب جهازي وضعف جعلني استخدم أجهزة أبنائي. ثم إحساس بالملل وعدم الاستمتاع بأعمال كانت تمتعني فدخلت في حالة من (الإنكار) بأن ما أشعر به لم يكن بسبب الجهاز بل بكل شيء آخر يؤثر على حالتي.
الإدمان على الأجهزة الإلكترونية
ثم جاء دور (الإسقاط) حيث أصببت غضبي على كل أمر لم أستطع حله أو رقم شخص نسيته، فكان تحديد مشكلة الإدمان هي كثرة الاتصالات أو المشاغل التي سببت لي ضغطا نفسيا وأعراضا نفس فسيولوجية دفعتني لخوض مثل هذه التجربة. ثم ما لبثت أن دخلت في حيلة دفاع نفسية جديدة (الإبدال) للتخفيف من حدة توتر ناتج عن عدم التواصل. فكلما افتقدت التواصل مع الناس لجأت إلى ركعتين أتواصل بها مع ربي، أو استراق خمس دقائق اطمئنان على ما هو جديد في الفيسبوك مع (التبرير) بأن هذه ضرورة عصرية وأن ما أعانيه من ضغوط سببها كثرة الانشغال وتشتيت الجهود وليس استخدام الجهاز الذي هو وسيلة وليست غاية بحد ذاتها.
ثم تغيرت (ردود الفعل) لدي فقمت بشغل نفسي بتواصل اجتماعي واقعي مع أفراد العائلة لتعويض نقص التواصل مع المجتمع الخارجي، واستشعرت لذته مع تأكيد بحديث داخلي أن هذا ما يجب فعله. وقمت (بالاستدماج) حيث وجدت أن وضعي هذا سبب نجاح في زيادة نسبة تركيزي وزيادة عدد ساعات دراستي التي لم أكن أجد لها وقتا لكون اليوم 24 ساعة فقط لا تكفي لسد الاحتياجات فارتفعت عدد الصفحات التي أقرأها إلى أن وصلت بنفسي إلى مرحلة (التسامي) عبر عنها ابني بكلمات أشعرتني بأنني بين الغيوم حيث قال لي "الآن أصبحت أما مثالية". فصرت أبحث عن شخصيات ناجحة تصلح (للتقمص) لأرفع فيها من قدر نفسي، شخصيات نذرت نفسها للعلم أو الدعوة وسيطرت على نفسها ومشاكلها ولم تسمح للظروف والمشاكل من السيطرة عليها.
وبعدها وبكل تأكيد كان ولا بد من حالات ورغبة (للنكوص) إلى ما قبل تعلقي بالجهاز أو حتى قبل اختراعه حيث كانت الحياة بسيطة وسهلة ولم أشعر بهذا الفقدان لأنني وبكل بساطة لم أكن أعرفه. ولذلك بدأت أرغب وأصر على إيجاد حلول وسط أبحث فيها عن (التثبيت) لكيلا أسمح بالعودة ثانية إلى حالي ما قبل هذه التجربة حتى لا أضطر إلى اعتزاله بل تقنين استخدامه.
وبهذا تتلخص نتائج تجربتي بأن الإدمان ليس إلا تعلق بعلاقة يبرره الشخص ليربطه شعوريا بحالات من الأمان والسعادة.ولكل شخص منا إدمانه الذي قد يعيه أولا يكون واعيا عليه. فقد يكون الإدمان على الأجهزة الإلكترونية أو بعض المأكولات كالحلويات أو السجائر، كما يمكن أن يكون الإدمان على العلاقات الشخصية أو ما يسمى الارتباط المرضي مع حبيب أو زوج او صديق، يعاني صاحبه في حال اضطراره لقطع العلاقة لسبب من الأسباب.
يعالج الإدمان ذاتيا عن طريق الوعي بالحالة الدفاعية النفسية التي سيمر بها المرء يقينا حيث لا بد من مروره على واحدة أو أكثر من تلك الحالات النفسية الدفاعية، وبالتالي عدم السماح للنفس بالاستقرار فيها لأكثر من أيام. مع التأكيد بأنه من الأفضل التدرج بعلاج الإدمان وعدم استخدام أسلوب الكي أو القطع المفاجئ لما له من آثار سلبية جانبية كثيرة.
ثم لا بد من استخدام بدائل عن ما تفتقده النفس حتى لا يترك الفقدان فراغا يؤلم صاحبه. فإن كان الإدمان على التحدث مع حبيب لا يمكن الوصول إليه أو جهاز قرر صاحبه تركه أو قطعة حلوى يقاومها من يخفف من وزنه فلا بد من شغل النفس بأمور تسعدها كالعناية مثلا بالجسد من خلال ممارسة رياضة محببة أو تغذية صحية سليمة أو التمتع بمنظر البحر. وفي حالات علاج الإدمان فقط يجب أن يكون الشخص أنانيا حيث يعمل على التفكير بذاته قبل غيره، يرضيها يشبعها واهم من ذلك كله أن يربطها بحب ورابط يسمو به ألا وهو التقرب من الله عز وجل بالدعاء والصلاة والصدقة.